فصل: تفسير الآية رقم (30)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَانْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، إِنَّا لَا نُضِيعُ ثَوَابَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًافَأَطَاعَ اللَّهَ، وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، بَلْ نُجَازِيهِ بِطَاعَتِهِ وَعَمَلِهِ الْحَسَنِ جَنَّاتِ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَأَيْنَ خَبَرُ ‏"‏إِنَّ‏"‏ الْأُولَى‏؟‏ قِيلَ‏:‏ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا‏}‏ فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏

إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ عَمِلَ صَالَحًا، فَتَرَكَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ، وَاعْتَمَدَ عَلَى الثَّانِي بِنِيَّةِ التَّكْرِيرِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ عَنْ قِتَالٍ فِيهِ عَلَى التَّكْرِيرِ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

إِنَّ الْخَلِيفَـةَ إِنَّ اللَّـهَ سَـرْبَلَهُ *** سِـرْبَالَ مُلْـكٍ بِـهِ تُرْجَـى الْخَـواتِيمُ

وَيُرْوَى‏:‏ تُرْخَى، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ جَزَاءً، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّ مَنْ عَمِلَ صَالَحًا فَإِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُ، فَتُضْمَرُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ ‏"‏إِنَّا‏"‏، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُهَا‏:‏ أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتُ عَدْنٍ، يَعْنِي بَسَاتِينَ إِقَامَةٍ فِي الْآخِرَةِ، ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ تَجْرِي مِنْ دُونِهِمْ وَمِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمُ الْأَنْهَارُ،

وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ مِنْ تَحْتِهِمْ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ مِنْ دُونِهِمْ وَبَيْنِ أَيْدِيهِمْ، ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يَلْبَسُونَ فِيهَا مِنَ الْحُلِيِّ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْأَسَاوِرُ‏:‏ جَمَعَ إِسْوَارٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ‏}‏‏.‏

وَالسُّنْدُسُ‏:‏ جُمَعٌ وَاحِدُهَا سُنْدُسَةٌ، وَهِيَ مَا رَقَّ مِنَ الدِّيبَاجِ، وَالْإِسْتَبْرَقُ‏:‏ مَا غَلُظَ مِنْهُ وَثَخُنَ، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الْإِسْتَبْرَقَ‏:‏ هُوَ الْحَرِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُرَقَّشِ‏:‏

تَـرَهُنَّ يَلْبَسْـنَ الْمَشـاعِرَ مَـرَّةٌ *** وإسْـتَبْرَقَ الدّيبَـاجِ طَـوْرًا لِبَاسُـهَا

يَعْنِي‏:‏ وَغَلِيظُ الدِّيبَاجِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مُتَّكِئِينَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى الْأَرَائِكِ، وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَاحِدَتُهَا‏:‏ أَرِيكَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

خُـدُودًا جَـفَتْ فـي السَّيْرِ حَتَّى كَأَنَّمَا *** يُبَاشِـرْنَ بِـالْمَعْزاءِ مَسَّ الْأرَائِـكِ

وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى‏:‏

بَيْـنَ الـرُّوَاقِ وَجَـانِبٍ مِـنْ سِـتْرِهَا *** مِنْهـا وَبَيْـنَ أرِيكَـةِ الْأنْضَـادِ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏عَلَى الْأَرَائِكِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الْحِجَالُ‏.‏ قَالَ مَعْمَرٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏نِعْمَ الثَّوَابُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ نَعِمَ الثَّوَابُ جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلِمُوا الصَّالِحَاتِ ‏{‏وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَحَسُنَتْ هَذِهِ الْأَرَائِكُ فِي هَذِهِ الْجِنَانِ الَّتِي وَصَفَ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَّكَأً‏.‏وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا‏}‏ فَأَنَّثَ الْفِعْلَ بِمَعْنَى‏:‏ وَحَسُنَتْ هَذِهِ الْأَرَائِكُ مُرْتَفَقًا، وَلَوْ ذَكَّرَ لِتَذْكِيرِ الْمُرْتَفِقِ كَانَ صَوَابًا، لِأَنَّ نِعْمَ وَبِئْسَ إِنَّمَا تُدْخِلُهُمَا الْعَرَبُ فِي الْكَلَامِ لِتَدُلَّا عَلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ لَا لِلْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ تَذَكِّرُهُمَا مَعَ الْمُؤَنَّثِ، وَتُوَحِّدُهُمَا مَعَ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 34‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاضْرِبْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، الَّذِينَ سَأَلُوكَ أَنْ تَطْرُدَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، ‏(‏مَثَلًا‏)‏ مَثَلُ ‏{‏رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ‏}‏ أَيْ جَعَلْنَا لَهُ بُسْتَانَيْنِ مِنْ كُرُومٍ ‏{‏وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَطَفْنَا هَذَيْنِ الْبُسْتَانَيْنِ بِنَخْلٍ‏.‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَجَعَلْنَا وَسَطَ هَذَيْنِ الْبُسْتَانَيْنِ زَرْعًا، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كِلَا الْبُسْتَانَيْنِ أَطْعَمَ ثَمَرَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْغُرُوسِ مِنَ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَصُنُوفِ الزَّرْعِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ آتَتْ، فَوَحَّدَ الْخَبَرَ، لِأَنَّ كِلْتَا لَا يُفْرَدُ وَاحِدَتُهَا، وَأَصْلُهُ كَلُّ، وَقَدْ تُفَرِّدُ الْعَرَبُ كِلْتَا أَحْيَانًا، وَيَذْهَبُونَ بِهَا وَهِيَ مُفْرَدَةٌ إِلَى التَّثْنِيَةِ، قَالَ بَعْضُ الرُّجَّازِ فِي ذَلِكَ‏:‏

فِـي كِـلْتَ رِجْلَيْهَـا سُـلَامَى وَاحِـدَهْ *** كِلْتَاهُمَـا مَقْرُونَـةٌ بِزَائِـدَهْ

يُرِيدُ بِكَلْتَ‏:‏ كِلْتَا، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ بِكِلْتَا وَكِلَا وَكُلُّ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَجَاءَ الْفِعْلُ بِعْدَهُنَّ وَيَجْمَعُ وَيُوَحَّدُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ تَنْقُصْ مِنَ الْأَكْلِ شَيْئًا، بَلْ آتَتْ ذَلِكَ تَامًّا كَامِلًا وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ‏:‏ ظَلَمَ فُلَانٌ فُلَانًا حَقَّهُ‏:‏ إِذَا بَخَسَهُ وَنَقَصَهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

تَظَّلَمَنِـي مَـالِي كَـذَا وَلَـوَى يَـدِي *** لَـوَى يَـدَهُ اللَّـهُ الَّـذِي هُـوَ غَالِبُـهْ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا‏}‏‏:‏ أَيْ لَمْ تَنْقُصْ، مِنْهُ شَيْئًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏

وَسَيَّلْنَا خِلَالَ هَذَيْنِ الْبُسْتَانَيْنِ نَهْرًا، يَعْنِي بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَشْجَارِهِمَا نَهْرًا‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ ‏(‏وَفَجَّرْنَا‏)‏ فَثَقَّلَ الْجِيمَ مِنْهُ، لِأَنَّ التَّفْجِيرَ فِي النَّهْرِ كُلِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَمِيدُ مَاءً فَيُسِيلُ بَعْضُهُ بَعْضًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ‏"‏ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ‏.‏ وَاخْتَلَفَ قَارِئُو ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ لَهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَقَالُوا‏:‏ ذَلِكَ هُوَ الثَّمَرُ، لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُثْمِرَةٌ، يَعْنِي مُكْثِرَةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ، وَفِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏بِثَمَرِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ أَيْضًا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنْي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏(‏ثَمَرٌ‏)‏ قَالَ‏:‏ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ هِيَ هِيَ أَيْضًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِهِ‏:‏ الْمَالُ الْكَثِيرُ مِنْ صُنُوفِ الْأَمْوَالِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ‏"‏ بِالضَّمِّ، وَقَالَ‏:‏ يَعْنِي أَنْوَاعَ الْمَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ مَالٌ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ‏"‏ يَقُولُ‏:‏ مِنْ كُلِّ الْمَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ الثَّمَرُ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ يَعْنِي الثَّمَرَ، وَغَيْرَهُ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ‏:‏ ‏"‏الثُّمُرُ‏"‏ الْمَالُ كُلُّهُ، قَالَ‏:‏ وَكُلُّ مَالٍ إِذَا اجْتَمَعَ فَهُوَ ثُمُرٌ إِذَا كَانَ مِنْ لَوْنِ الثَّمَرَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِهِ الْأَصْلُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُرٌ‏"‏ الثَّمَرُ الْأَصْلُ، قَالَ ‏"‏ وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ‏"‏ قَالَ‏:‏ بِأَصْلِهِ، وَكَأَنَّ الَّذِينَ وَجَّهُوا مَعْنَاهَا إِلَى أَنَّهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَالِ، أَرَادُوا أَنَّهَا جَمْعُ ثِمَارٍ جَمْعِ ثَمَرٍ، كَمَا يَجْمَعُ الْكِتَابُ كُتُبًا، وَالْحِمَارُ حُمُرًا، وَقَدْ قَرَأَ بَعْضُ مَنْ وَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ‏"‏ثُمُرٌ‏"‏ بِضَمِّ الثَّاءِ وَسُكُونِ الْمِيمِ، وَهُوَ يُرِيدُ الضَّمَّ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّهُ سَكَّنَهَا طَلَبَ التَّخْفِيفِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهَا جَمْعَ ثَمَرَةٍ، كَمَا تَجْمَعُ الْخَشَبَةُ خَشَبًا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‏}‏ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، بِمَعْنَى جَمْعِ الثَّمَرَةِ، كَمَا تَجْمَعُ الْخَشَبَةُ خَشَبًا، وَالْقَصَبَةُ قَصَبًا‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَاتِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ‏"‏وَكَانَ لَهُ ثُمُر‏"‏ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْمِيمِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ جَمْعَ ثِمَارٍ، كَمَا الْكُتُبُ جَمْعُ كِتَابٍ‏.‏

وَمَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ ‏{‏وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ‏}‏ مِنْهُمَا ‏"‏ثُمُر‏"‏ بِمَعْنَى مِنْ جَنَّتَيْهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الثِّمَارِ وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا‏}‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَكَانَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْكُرُومِ وَالنَّخْلِ وَالزَّرْعِ ثَمَرٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ فَقَالَ هَذَا الَّذِي جَعَلْنَا لَهُ جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، لِصَاحِبِهِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ يُخَاطِبُهُ‏:‏

‏{‏أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَعَزُّ عَشِيرَةً وَرَهْطًا، كَمَا قَالَ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ نَحْنُ سَادَاتُ الْعَرَبِ، وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ، فَنَحِّ عَنَّا سَلْمَانَ وَخَبَّابًا وَصُهَيْبًا، احْتِقَارًا لَهُمْ، وَتَكَبُّرًا عَلَيْهِمْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا‏}‏ وَتِلْكَ وَاللَّهِ أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ‏:‏ كَثْرَةُ الْمَالِ، وَعِزَّةُ النَّفَرِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 36‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ هَذَا الَّذِي جَعَلْنَا لَهُ جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ‏{‏دَخَلَ جَنَّتَهُ‏}‏ وَهِيَ بُسْتَانُهُ ‏{‏وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ‏}‏ وَظُلْمُهُ نَفْسَهُ‏:‏ كُفْرُهُ بِالْبَعْثِ، وَشَكُّهُ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ، وَنِسْيَانُهُ الْمَعَادَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَوْجَبَ لَهَا بِذَلِكَ سُخْطَ اللَّهِ وَأَلِيمَ عِقَابِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا‏}‏ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ قَالَ لَمَّا عَايَنَ جَنَّتَهُ، وَرَآهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ شَكَّ فِي الْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ‏:‏ مَا أَظُنُّ أَنَّ تُبِيدَ هَذِهِ الْجَنَّةُ أَبَدًا، وَلَا تَفْنَى وَلَا تَخْرَبُ، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ خَلْقَهُ الْحَشْرَ فِيهَا تَقُومُ فَتَحْدُثُ، ثُمَّ تَمَنَّى أَمْنِيَّةً أُخْرَى عَلَى شَكٍّ مِنْهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي‏}‏ فَرَجَعَتْ إِلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُوقِنٍ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ ‏{‏لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لِأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِي هَذِهِ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ رَدَدْتُ إِلَيْهِ مَرْجِعًا وَمَرَدًا، يَقُولُ‏:‏ لَمْ يُعْطِنِي هَذِهِ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَلِي عِنْدُهُ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْمَعَادِ إِنْ رَدَدْتُ إِلَيْهِ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ شَكَّ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَلَئِنْ‏)‏ كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ ‏{‏رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا‏}‏ مَا أَعْطَانِي هَذِهِ إِلَّا وَلِي عِنْدُهُ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ كَفُورٌ لِنِعَمِ رَبِّهِ، مُكَذِّبٌ بِلِقَائِهِ‏:‏ مُتَمَنٍّ عَلَى اللَّهِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ قَالَ لِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ صَاحِبُهُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ مَالًا وَوَلَدًا، ‏{‏وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ وَهُوَ يُخَاطِبُهُ وَيُكَلِّمُهُ‏:‏ ‏{‏أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ‏}‏ يَعْنِي خَلَقَ أَبَاكَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ‏{‏ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ أَنْشَأَكَ مِنْ نُطْفَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، ‏{‏ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ ثُمَّ عَدَلَكَ بَشَرًا سَوِيًّا رَجُلًا ذِكْرًا لَا أُنْثَى، يَقُولُ‏:‏ أَكَفَرْتَ بِمَنْ فَعَلَ بِكَ هَذَا أَنْ يُعِيدَكَ خَلْقًا جَدِيدًا بَعْدَ مَا تَصِيرُ رُفَاتًا ‏{‏لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَمَّا أَنَا فَلَا أَكْفُرُ بِرَبِّي، وَلَكِنَّ أَنَا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقُولُ‏:‏ وَلَكِنَّ أَنَا أَقُولُ‏:‏ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ‏{‏وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا‏}‏‏.‏ وَفِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ وَجْهَانِ‏:‏ أَحَدُهُمَا لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِي حَالِ الْوَصْلِ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ أَنَا قَائِمٌ فَتُحْذَفُ الْأَلِفُ مِنْ أَنَا، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عَامَّةِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ‏.‏ وَأَمَّا فِي الْوَقْفِ فَإِنَّ الْقِرَاءَةَ كُلَّهَا تَثْبُتُ فِيهَا الْأَلِفُ، لِأَنَّ النُّونَ إِنَّمَا شُدِّدَتْ لِانْدِغَامِ النُّونِ مِنْ لَكِنْ، وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِي النُّونِ الَّتِي مِنْ أَنَا، إِذْ سَقَطَتِ الْهَمْزَةُ الَّتِي فِي أَنَا، فَإِذَا وَقَفَ عَلَيْهَا ظَهَرَتِ الْأَلِفُ الَّتِي فِي أَنَا، فَقِيلَ‏:‏ لَكِنَّا، لِأَنَّهُ يُقَالُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَا بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ لَا بِإِسْقَاطِهَا‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ‏:‏ ‏(‏لَكِنَّا‏)‏ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُنْطَقُ بِهِ فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَنَـا سَـيْفُ العَشِـيرَةِ فـاعْرِفُونِي *** حَـمِيدًا قَـدْ تَـذَرَّيْتُ السِّـنَامَا

فَأَثْبَتَ الْأَلِفَ فِي أَنَا، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْفَصِيحِ مِنَ الْكَلَامِ، وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا مَا ذَكَرْنَا عَنِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَهُوَ حَذْفُ الْأَلِفِ مِنْ ‏"‏لَكِنَّ‏"‏ فِي الْوَصْلِ، وَإِثْبَاتُهَا فِي الْوَقْفِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَهَلَّا إِذْ دَخَلْتَ بُسْتَانَكَ، فَأَعْجَبَكَ مَا رَأَيْتَ مِنْهُ، قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهُوَ جَوَابُ الْجَزَاءِ، وَذَلِكَ كَانَ‏.‏

وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا كَانَتْ ‏"‏مَا‏"‏ نَصَبًا بِوُقُوعِ فِعْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ شَاءَ، وَجَازَ طَرْحُ الْجَوَابِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مَعْرُوفٌ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ‏}‏ وَتَركُ الْجَوَابِ، إِذْ كَانَ مَفْهُومًا مَعْنَاهُ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ ‏"‏مَا‏"‏ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا شَاءَ اللَّهُ‏}‏ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِإِضْمَارٍ هُوَ، كَأَنَّهُ قِيلَ‏:‏ قَلْتَ هُوَ مَا شَاءَ اللَّهُ ‏{‏لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا قُوَّةَ عَلَى مَا نُحَاوِلُ مِنْ طَاعَتِهِ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا‏}‏ وَهُوَ قَوْلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَا عَشِيرَةَ، مِثْلُ صَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ وَعَشِيرَتِهِ، وَهُوَ مِثْلُ سَلْمَانَ وَصُهَيبٍ وَخَبَّابٍ، يَقُولُ‏:‏ قَالَ الْمُؤْمِنُ لِلْكَافِرِ‏:‏ إِنْ تَرِنْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَإِذَا جَعَلْتَ أَنَا عِمَادًا نَصَبْتَ أَقَلَّ، وَبِهِ الْقِرَاءَةُ عِنْدَنَا، لِأَنَّ عَلَيْهِ قِرَاءَةَ الْأَمْصَارِ، وَإِذَا جَعَلْتَهُ اسْمًا رَفَعَتَ أَقَلَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْقِيلِ الْمُؤْمِنِ الْمُوقِنِ لِلْمَعَادِ إِلَى اللَّهِ لِلْكَافِرِ الْمُرْتَابِ فِي قِيَامِ السَّاعَةِ‏:‏ إِنْ تَرِنْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فِي الدُّنْيَا، فَعَسَى رَبِّي أَنَّ يَرْزُقَنِي خَيْرًا مِنْ بُسْتَانِكَ هَذَا ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا‏}‏ يَعْنِي عَلَى جَنَّةِ الْكَافِرِ الَّتِي قَالَ لَهَا‏:‏ مَا أَظُنُّ أَنَّ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ‏{‏حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ عَذَابًا مِنَ السَّمَاءِ تَرْمِي بِهِ رَمْيًا، وَتَقْذِفُ‏.‏ وَالْحُسْبَانُ‏:‏ جَمْعُ حُسْبَانَةٍ، وَهِيَ الْمَرَامِي‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ عَذَابًا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ‏:‏ عَذَابًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَذَابًا، قَالَ‏:‏ الْحُسْبَانُ‏:‏ قَضَاءٌ مِنَ اللَّهِ يَقْضِيهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الْحُسْبَانُ‏:‏ الْعَذَابُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَذَابًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَتُصْبِحُ جَنَّتُكَ هَذِهِ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَرْضًا مَلْسَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا، قَدْ ذَهَبَ كُلُّ مَا فِيهَا مِنْ غَرْسٍ وَنَبْتٍ، وَعَادَتْ خَرَابًا بِلَاقِعَ، زَلَقًا، لَا يَثْبُتُ فِي أَرْضِهَا قَدَمٌ لا ملساسها، وَدُرُوس مَا كَانَ نَابِتًا فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏‏:‏ أَيْ قَدْ حُصِدَ مَا فِيهَا فَلَمْ يُتْرَكْ فِيهَا شَيْءٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مِثْلُ الْجُرُزِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ صَعِيدًا زَلَقًا وَصَعِيدًا جُرُزًا وَاحِدٌ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ النَّبَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ أَوْ يُصْبِحُ مَاؤُهَا غَائِرًا، فَوَضَعَ الْغَوْرَ وَهُوَ مَصْدَرٌ مَكَانَ الْغَائِرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

تَظَـلُّ جِيَـادُهُ نَوْحـا عَلَيْـهِ *** مُقَلَّـدَةً أَعِنَّتَهَـا صُفُونـا

بِمَعْنَى نَائِحَةً، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

هَـرِيقِي مِـنْ دُمُوعِهِمـَا سَـجَامًا *** ضُبَـاعَ وجَـاوِبِي نَوْحًـا قِيامًـا

وَالْعَرَبُ تَوَحُّدُ الْغَوْرَ مَعَ الْجَمْعِ وَالِاثْنَيْنِ، وَتُذَكِّرُ مَعَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، تَقُولُ‏:‏ مَاءٌ غَوْرٌ، وَمَاءَانِ غَوْرٌ وَمِيَاهٌ غَوْرٌ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏غَوْرًا‏)‏ ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ، فَذَهَبَ فَلَا تَلْحَقُهُ الرِّشَاءُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا‏}‏ أَيْ ذَاهِبًا قَدْ غَارَ فِي الْأَرْضِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَنْ تُطِيقَ أَنْ تُدْرِكَ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ فِي جَنَّتِكَ بَعْدَ غَوْرِهِ، بِطَلَبِكَ إِيَّاهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَحَاطَ الْهَلَاكُ وَالْجَوَائِحُ بِثَمَرِهِ، وَهِيَ صُنُوفُ ثِمَارِ جَنَّتِهِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ لَهَا‏:‏ ‏{‏مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا‏}‏ فَأَصْبَحَ هَذَا الْكَافِرُ صَاحِبُ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ، يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظُهْرًا لِبَطْنٍ، تَلَهُّفًا وَأَسَفًا عَلَى ذَهَابِ نَفَقَتِهِ الَّتِي أَنْفَقَ فِي جَنَّتِهِ ‏{‏وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَهِيَ خَالِيَةٌ عَلَى نَبَاتِهَا وَبُيُوتِهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ‏}‏‏:‏ أَيْ يُصَفِّقُ ‏{‏كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا‏}‏ مُتَلَهِّفًا عَلَى مَا فَاتَهُ، ‏(‏وَ‏)‏ هُوَ ‏{‏وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا‏}‏ وَيَقُولُ‏:‏ يَا لَيْتَنِي، يَقُولُ‏:‏ يَتَمَنَّى هَذَا الْكَافِرُ بَعْدَ مَا أُصِيبَ بِجَنَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَانَ أَشَرُّكَ بِرَبِّهِ أَحَدًا، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ هَذَاالْكَافِرُ إِذَا هَلَكَ وَزَالَتْ عَنْهُ دُنْيَاهُ وَانْفَرَدَ بِعَمَلِهِ، وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَلَا أَشْرَكَ بِهِ شَيْئًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ هَاتَيْنِ الْجَنَّتَيْنِ فِئَةٌ، وَهُمُ الْجَمَاعَةُ، كَمَا قَالَ عَجَّاجٌ‏:‏

كَمَا يَحُوزُ الْفِئَةُ الْكَمِيُّ

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، وَإِنْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ عِبَارَتَنَا، فَإِنَّ مَعْنَاهُمْ نَظِيرُ مَعْنَانَا فِيهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَشِيرَتُهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏‏:‏ أَيْ جُنْدٌ يَنْصُرُونَهُ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ يَمْنَعُونَهُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَعَذَابِ اللَّهِ إِذَا عَاقَبَهُ وَعَذَّبَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏{‏وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِذَا عَذَّبَهُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا‏}‏‏:‏ أَيْ مُمْتَنِعًا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقُّ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ ثُمَّ وَذَلِكَ حِينَ حَلَّ عَذَابُ اللَّهِ بِصَاحِبِ الْجَنَّتَيْنِ فِي الْقِيَامَةِ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ الْوَلَايَة، فَقَرَأَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ ‏{‏هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ‏}‏ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنَ الْوِلَايَةِ، يَعْنُونَ بِذَلِكَ هُنَالِكَ الْمُوَالَاةُ لِلَّهِ، كَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ وَكَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ يَذْهَبُونَ بِهَا إِلَى الْوَلَايَةِ فِي الدِّينِ‏.‏ وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏(‏‏"‏هُنَالِكَ الْوِلَايَة‏"‏‏)‏ بِكَسْرِ الْوَاوِ‏:‏ مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ وَلِيتُ عَمَلَ كَذَا، أَوْ بَلْدَةَ كَذَا أَلِيهِ وِلَايَةً‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَقِبَ ذَلِكَ خَبَّرَهُ عَنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَأَنَّ مَنْ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا نَاصِرَ لَهُ يَوْمئِذٍ، فَإِتْبَاعُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عَنِ انْفِرَادِهِ بِالْمَمْلَكَةِ وَالسُّلْطَانِ أُولَى مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْمُوَالَاةِ الَّتِي لَمَّ يَجْرِ لَهَا ذِكْرٌ وَلَا مَعْنَى، لِقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ لَا يُسَمَّى سُلْطَانُ اللَّهُ وِلَايَةً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ سُلْطَانُ الْبَشَرِ، لِأَنَّالْوِلَايَةَ مَعْنَاهَاأَنَّهُ يَلِي أَمْرَ خَلْقِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ دُونَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا أَنَّهُ يَكُونُ أَمِيرًا عَلَيْهِمْ‏.‏

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏الْحَقِّ‏)‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ خَفْضًا، عَلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى أَنَّهُ مَنْ نَعْتِ اللَّهِ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ‏:‏ هُنَالِكَالْوِلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّأُلُوهِيَّتُهُ، لَا الْبَاطِلُ بِطُولِ أُلُوهِيَّتِهِ الَّتِي يَدْعُونَهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ آلِهَةً، وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَبَعْضُ مُتَأَخَّرِي الْكُوفِيِّينَ ‏{‏لِلَّهِ الْحَقِّ‏}‏ بِرَفْعِ الْحَقِّ تَوْجِيهًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّهُ مَنْ نَعْتِ الْوِلَايَةِ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ هُنَالِكَ الْوِلَايَةُ الْحَقُّ، لَا الْبَاطِلُ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ خَفْضًا عَلَى أَنَّهُ مَنْ نَعْتِ اللَّهَ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ مَا وَصَفْتُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ كَذَلِكَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ خَيْرٌ لِلْمُنِيبِينَ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ ثَوَابًا ‏{‏وَخَيْرٌ عُقْبًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَخَيْرُهُمْ عَاقِبَةً فِي الْآجِلِ إِذَا صَارَ إِلَيْهِ الْمُطِيعُ لَهُ، الْعَامِلُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، وَالْمُنْتَهِي عَمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْعَقِبُ هُوَ الْعَاقِبَةُ، يُقَالُ‏:‏ عَاقِبَةُ أَمْرِ كَذَا وَعُقْبَاهُ وعَقِبُهُ، وَذَلِكَ آخِرُهُ وَمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ مُنْتَهَاهُ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ ‏(‏عُقْبًا‏)‏ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَسْكِينِ الْقَافِ‏.‏ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا، أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنـزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَاضْرِبْ لِحَيَاةِ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِينَ قَالُوا لَكَ‏:‏ اطْرُدْ عَنْكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِذَا نَحْنُ جِئْنَاكَ الدُّنْيَا مِنْهُمْ مَثَلًا يَقُولُ‏:‏ شَبَهًا ‏{‏كَمَاءٍ أَنـزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ كَمَطَرٍ أَنْـزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ‏{‏فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَاخْتَلَطَ بِالْمَاءِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ‏{‏فَأَصْبَحَ هَشِيمًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَصْبَحَ نَبَاتُ الْأَرْضِ يَابِسًا مُتَفَتِّتًا ‏{‏تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ‏}‏ يَقُولُ تَطَيُّرُهُ الرِّيَاحُ وَتَفَرُّقُهُ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ذَرَتْهُ الرِّيحُ تَذْرُوهُ ذَرْوًا، وَذَرَّتْهُ ذَرْيًا، وَأَذْرَتْهُ تَذْرِيهِ إِذْرَاءً، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

فَقُلْـتُ لَـهُ صَـوِّبْ وَلَا تُجْهِدَنَّـهُ *** فَيُـذْرِكَ مِـنْ أُخْـرَى الْقَطـاةِ فَتَزْلَقِ

يُقَالُ‏:‏ أَذْرَيْتُ الرَّجُلَ عَنِ الدَّابَّةِ وَالْبَعِيرِ‏:‏ إِذَا أَلْقَيْتُهُ عَنْهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى تَخْرِيبِ جَنَّةِ هَذَا الْقَائِلِ حِينَ دَخَلَ جَنَّتَهُ‏:‏ ‏{‏مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً‏}‏ وَإِهْلَاكُ أَمْوَالِ ذِي الْأَمْوَالِ الْبَاخِلِينَ بِهَا عَنْ حُقُوقِهَا، وَإِزَالَةُ دُنْيَا الْكَافِرِينَ بِهِ عَنْهُمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَشَاءُ قَادِرٌ، لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ أَرَادَهُ، وَلَا يُعْيِيهِ أَمْرٌ أَرَادَهُ‏.‏

يَقُولُ‏:‏ فَلَا يَفْخَرُ ذُو الْأَمْوَالِ بِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِ، وَلَا يَسْتَكْبِرُ عَلَى غَيْرِهِ بِهَا، وَلَا يَغْتَرَّنَّ أَهْلُ الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ، فَإِنَّمَا مَثَلُهَا مِثْلُ هَذَا النَّبَاتِ الَّذِي حَسُنَ اسْتِوَاؤُهُ بِالْمَطَرِ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا رَيْثَ أَنِ انْقَطَعَ عَنْهُ الْمَاءُ، فَتَنَاهَى نِهَايَتَهُ، عَادَ يَابِسًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ، فَاسِدًا، تَنْبُو عَنْهُ أَعْيُنُ النَّاظِرِينَ، وَلَكِنْ لِيَعْمَلَ لِلْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى، وَالدَّائِمِ الَّذِي لَا يَبِيدُ وَلَا يَتَغَيَّرُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ الْمَالُ وَالْبَنُونَ أَيُّهَا النَّاسُ الَّتِي يَفْخَرُ بِهَاعُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ، وَيَتَكَبَّرَانِ بِهَا عَلَى سَلْمَانَ وَخَبَّابٍ وَصُهَيْبٍ، مِمَّا يُتَزَيَّنُ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَا مِنْ عِدَادِ الْآخِرَةِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا يَعْمَلُ سَلْمَانُ وَخَبَّابٌ وَصُهَيْبٌ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَدُعَائِهِمْ رَبَّهمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، الْبَاقِي لَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَعْدَ فَنَاءِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَيْرٌ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا مِنَ الْمَالِ وَالْبَنِينَ الَّتِي يَفْتَخِرُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بِهَا، الَّتِي تَفْنَى، فَلَا تَبْقَى لِأَهْلِهَا ‏{‏وَخَيْرٌ أَمَلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا يُؤَمَّلُ مِنْ ذَلِكَ سَلْمَانُ وَصُهَيْبٌ وَخَبَّابٌ، خَيْرٌ مِمَّا يُؤَمَّلُ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ مِنْ أَمْوَالِهِمَا وَأَوْلَادِهِمَا‏.‏ وَهَذِهِ الْآيَاتُ لِمَنْ لَدُنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ‏}‏ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، ذُكِرَ أَنَّهَا نَـزَلَتْ فِي عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَمْرٍو الْعَنْقَزِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْأَزْدِيِّ، وَكَانَ قَارِئُ الْأَزْدِ، عَنْ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ خَبَّابٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ‏}‏ ثُمَّ ذَكَرَ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي قِصَّةِ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ، إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ ‏{‏وَاتَّبَعَ هَوَاهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ، وَمِثْلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيالْمَعْنِيِّ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، اخْتِلَافَهَمْ فِي الْمَعْنِيِّ بِالدُّعَاءِ الَّذِي وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الَّذِينَ نَهَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ طَرْدِهِمْ، وَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ هِيَ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏

هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْمَاطِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَاسِبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأُمَوِيُّ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ، يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَتَبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏:‏ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏.‏

حَدَّثَنِي زُرَيْقُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ ثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏:‏ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ هُنَّ ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالُوا‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ‏.‏ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو عَقِيلٍ زَهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ الْقُرَشِيُّ مِنْ بَنِي تَيْمٍ مِنْ رَهْطِ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَرْثَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، يَقُولُ‏:‏ قِيلَ لِعُثْمَانَ‏:‏ مَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو زَرْعَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَيْوَةُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَقِيلٍ زَهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ‏:‏ قِيلَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ‏:‏ مَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ وَرِشْدَينُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَا ثَنَا زَهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْحَارِثَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ يَقُولُ‏:‏ قَالُوا لِعُثْمَانَ‏:‏ مَا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏؟‏ فَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُشَيْمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ سَرْجِسَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏ قَالَ ابْنُ جريجٍ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ مَثْلَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبُو صَخْرٍ‏:‏ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ قَالَ‏:‏ أَرْسَلَنِي سَالِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، فَقَالَ‏:‏ قُلْ لَهُ الْقَنِي عِنْدَ زَاوِيَةِ الْقَبْرِ، فَإِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ‏:‏ فَالْتَقَيَا، فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ سَالِمٌ‏:‏ مَا تَعَدُّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ‏:‏ مَتَى جَعَلْتَ فِيهَا لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مَا زِلْتُ أَجْعَلُهَا، قَالَ‏:‏ فَرَاجَعَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَلَمَّ يَنْـزِعُ، قَالَ‏:‏ فَأُثْبِتُ، قَالَ سَالِمٌ‏:‏ أَجَلْ، فَأَثْبِتْ فَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ «عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَأُرِيتُ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ‏:‏ يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا مَعَكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مُحَمَّدٌ، فَرَحَّبَ بِي وَسَهَّلَ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ مُرْ أُمَّتَكَ فَلْتُكْثِرْ مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ، وَأَرْضُهَا وَاسِعَةٌ، فَقُلْتُ‏:‏ وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه»‏.‏

وُجِدَتْ فِي كِتَابِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارِ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِجْلَانَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقُبْريِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، هُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏"‏ اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، قِيلَ‏:‏ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْمِلَّةُ، قِيلَ‏:‏ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏"‏التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ، وَالْحَمْدُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ فِي الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ‏:‏ إِنَّهَا قَوْلُ الْعَبْدِ‏:‏ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ الْبَرْقِيِّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي ابْنُ عَجْلَانَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ صَيَّادٍ، قَالَ‏:‏ سَأَلَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنِ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، فَقُلْتُ‏:‏ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ، قَالَ‏:‏ لَمْ تُصِبْ، فَقُلْتُ‏:‏ الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ، فَقَالَ‏:‏ لَمْ تُصِبْ، وَلَكِنَّهُنَّ الْكَلِمَاتُ الْخَمْسُ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ هِيَ الْعَمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ هِيَ ذِكْرُ اللَّهِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَتَبَارَكَ اللَّهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ وَالْحَجُّ وَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ وَالْجِهَادُ وَالصِّلَةُ، وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْحَسَنَاتِ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ، الَّتِي تَبْقَى لِأَهْلِهَا فِي الْجَنَّةِ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ‏:‏ هِيَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ‏}‏ قَالَ‏:‏ الْكَلَامُ الطَّيِّبُ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ هُنَّ جَمِيعُ أَعْمَالِ الْخَيْرِ، كَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الصَّالِحَاتِ الَّتِي تَبْقَى لِصَاحِبِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَعَلَيْهَا يُجَازَى وَيُثَابُ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ ذِكْرُهُ لَمْ يُخَصِّصْ مِنْ قَوْلِهِ ‏{‏وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا‏}‏ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ فِي كِتَابٍ، وَلَا بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

فَإِنْ ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا ظَنَّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا وَرَدَ بِأَنَّ قَوْلَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، هُنَّ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ هُنَّ جَمِيعُ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَلَا كُلَّ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَجَائِزٌ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ بَاقِيَاتٍ صَالِحَاتٍ، وَغَيْرُهَا مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ أَيْضًا بَاقِيَاتٌ صَالِحَاتٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏

‏{‏وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ‏}‏ عَنِ الْأَرْضِ، فَنَبُسُّهَا بَسًّا، وَنَجْعَلُهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا ‏{‏وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً‏}‏ ظَاهِرَةً‏:‏ وَظُهُورُهَا لِرَأْيِ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَسْتُرُهَا مَنْ جَبَلٍ وَلَا شَجَرٍ هُوَ بُرُوزُهَا‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ لَا خَمْرَ فِيهَا وَلَا غَيَابَةَ وَلَا بِنَاءَ، وَلَا حَجَرَ فِيهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً‏}‏ لَيْسَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ وَلَا شَجَرٌ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزًا أَهْلُهَا الَّذِينَ كَانُوا فِي بَطْنِهَا، فَصَارُوا عَلَى ظَهْرِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏(‏وَحَشَرْنَاهُمْ‏)‏ يَقُولُ‏:‏ جَمَعْنَاهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْحِسَابِ ‏{‏فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَلَمْ نَتْرُكْ، وَلَمْ نُبْقِ مِنْهُمْ تَحْتَ الْأَرْضِ أَحَدًا، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ مَا غَادَرْتُ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدًا، وَمَا أَغْدَرْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَمِنْ أَغْدَرْتُ قَوْلُ الرَّاجِزِ‏:‏

هَـلْ لَـكِ وَالْعَـارِضُ مِنْـكِ عَـائِضٌ *** فِـي هَجْمَـةٍ يُغْـدِرُ مِنْهـَا الْقـابِضُ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَعُرِضَ الْخَلْقُ عَلَى رَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ صَفًّا‏.‏

‏{‏لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ يُقَالُ لَهُمْ إِذْ عُرِضُوا عَلَى اللَّهِ‏:‏ لَقَدْجِئْتُمُونَا أَيُّهَا النَّاسُ أَحْيَاءً كَهَيْئَتِكُمْ حِينَ خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَحَذْفُ يُقَالُ مِنَ الْكَلَامِ لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ بِأَنَّهُ مُرَادٌ فِي الْكَلَامِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا‏}‏ وَهَذَا الْكَلَامُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ بِهِ الْجَمِيعَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ الْقِيَامَةَ خَلْقٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقَالُ يَوْمئِذٍ لِمَنْ وَرَّدَهَا مَنْ أَهْلِ التَّصْدِيقِ بِوَعْدِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْيَقِينِ فِيهَا بِقِيَامِ السَّاعَةِ، بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ لَنْ نَجْعَلَ لَكُمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَمَاتِ، وَالْحَشْرَ إِلَى الْقِيَامَةِ مَوْعِدًا، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَايُقَالُ لِمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبًا بِالْبَعْثِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَوَضَعَ اللَّهُ يَوْمئِذٍ كِتَابَ أَعْمَالِ عِبَادِهِ فِي أَيْدِيهِمْ، فَأَخَذَ وَاحِدٌ بِيَمِينِهِ وَأَخَذَ وَاحِدٌ بِشَمَالِهِ ‏{‏فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ مُشْفِقِينَ، يَقُولُ‏:‏ خَائِفِينَ وَجِلِينَ مِمَّا فِيهِ مَكْتُوبٌ مِنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا أَنْ يُؤَاخِذُوا بِهَا ‏{‏وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِذَا قَرَءُوا كِتَابَهُمْ، وَرَأَوْا مَا قَدْ كُتِبَ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنْ صَغَائِرِ ذُنُوبِهِمْ وَكَبَائِرِهَا، نَادَوْا بِالْوَيْلِ حِينَ أَيْقَنُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَضَجُّوا مِمَّا قَدْ عَرَفُوا مِنْ أَفْعَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ الَّتِي قَدْ أَحْصَاهَا كِتَابُهُمْ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُنْكِرُوا صِحَّتَهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ ‏{‏مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ اشْتَكَى الْقَوْمُ كَمَا تَسْمَعُونَ الْإِحْصَاءَ، وَلَمْ يَشْتَكِ أَحَدٌ ظُلْمًا، فَإِيَّاكُمْ وَالْمُحَقَّرَاتِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهَا تَجْتَمِعُ عَلَى صَاحِبِهَا حَتَّى تُهْلِكَهُ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَضْرِبُ لَهَا مَثَلًا يَقُولُ «كَمَثَلِ قَوْمٍ انْطَلَقُوا يَسِيرُونَ حَتَّى نَـزَلُوا بِفَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ، وَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ يَحْتَطِبُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا كَثِيرًا وَأَجَّجُوا نَارًا، فَإِنَّ الذَّنَبَ الصَّغِيرَ، يَجْتَمِعُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُهْلِكَه»، وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهُ عَنَى بِالصَّغِيرَةِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ‏:‏ الضَّحِكُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الزِّيَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏{‏لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ الضَّحِكُ‏.‏

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي، قَالَ‏:‏ حَدَّثَتْنِي أُمِّيحَمَادَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ، قَالَتْ‏:‏ سَمِعَتْ أَبِي مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ الصَّغِيرَةُ‏:‏ الضَّحِكُ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَالِ هَذَا الْكِتَابِ‏}‏‏:‏ مَا شَأْنُ هَذَا الْكِتَابِ ‏{‏لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَا يُبْقِي صَغِيرَةً مِنْ ذُنُوبِنَا وَأَعْمَالِنَا وَلَا كَبِيرَةً مِنْهَا ‏{‏إِلَّا أَحْصَاهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ إِلَّا حَفِظَهَا ‏{‏وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا‏}‏ فِي الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ ‏(‏حَاضِرًا‏)‏ فِي كِتَابِهِمْ ذَلِكَ مَكْتُوبًا مُثْبَتًا، فَجُوزُوا بِالسَّيِّئَةِ مَثْلَهَا، وَالْحَسَنَةِ مَا اللَّهُ جَازِيهِمْ بِهَا ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا يُجَازِي رَبُّكَ أَحَدًا يَا مُحَمَّدُ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، لَا يُجَازِي بِالْإِحْسَانِ إِلَّا أَهْلَ الْإِحْسَانِ، وَلَا بِالسَّيِّئَةِ إِلَّا أَهْلَ السَّيِّئَةِ، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُذَكِّرًا هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ حَسَدَ إِبْلِيسُ أَبَاهُمْ وَمُعَلِّمَهُمْ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ كِبْرِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَلَيْهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ، وَأَنَّهُ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ لَهُمْ عَلَى مَثَلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ لِأَبِيهِمْ‏:‏ ‏(‏وَ‏)‏ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ‏}‏ الَّذِي يُطِيعُهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ وَيَتْبَعُونَ أَمْرَهُ، وَيُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ اسْتِكْبَارًا عَلَى اللَّهِ، وَحَسَدًا لِآدَمَ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّهُ كَانَ مِنْ قَبِيلَةٍ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ كَانَ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، فَنُسِبَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قِيلَ مِنَ الْجِنِّ، لِأَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَجَنُّوا عَنْ أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلَّادِ بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ اسْمُهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ الْمَعْصِيَةَ عَزَازِيلَ، وَكَانَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ الْمَلَائِكَةِ اجْتِهَادًا وَأَكْثَرِهِمْ عِلْمًا، فَذَلِكَ هُوَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى الْكِبْرِ، وَكَانَ مِنْ حَيٍّ يُسَمَّى جِنًّا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مَنْ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ اسْمُهُ الْحَارِثَ، قَالَ‏:‏ وَكَانَ خَازِنًا مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَخُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ غَيْرَ هَذَا الْحَيِّ، قَالَ‏:‏ وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذَكَرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَهُوَ لِسَانُ النَّارِ الَّذِي يَكُونُ فِي طَرَفِهَا إِذَا الْتَهَبَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ‏:‏ ثَنِي شَيَّبَانَ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَلَامُ بْنُ مِسْكِينَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَ مَلَائِكَةِ سَمَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبِي عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ، وَكَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ سَمَاءِ الدُّنْيَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمَهُمْ قَبِيلَةً‏.‏ وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ الْأَرْضِ، وَكَانَ فِيمَا قَضَى اللَّهُ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شَرَفًا وَعَظَمَةً عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ السُّجُودِ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَسْجُدَ لِآدَمَ اسْتَخْرَجَ اللَّهُ كِبْرَهُ عِنْدَ السُّجُودِ، فَلَعَنَهُ وَأَخَّرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ إِنَّمَا سُمِّيَ بِالْجَنَانِ أَنَّهُ كَانَ خَازِنًا عَلَيْهَا، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ‏:‏ مَكِّيٌّ، وَمُدُنِيٌّ، وَكُوفِيٌّ، وَبَصَرِيٌّ، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُمْ سِبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةٌ، وَكَانَ اسْمُ قَبِيلَتِهِ الْجِنُّ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، وَشَرِيْكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً مِنَ الْجِنِّ، وَكَانَ إِبْلِيسُ مِنْهَا، وَكَانَ يَسُوسُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعَصَى، فَسَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَمَسَخَهُ شَيْطَانًا رَجِيمًا، لَعَنَهُ اللَّهُ مَمْسُوخًا، قَالَ‏:‏ وَإِذَا كَانَتْ خَطِيئَةُ الرَّجُلِ فِي كِبْرٍ فَلَا تَرْجُهُ، وَإِذَا كَانَتْ خَطِيئَتُهُ فِي مَعْصِيَةٍ فَارْجُهُ، وَكَانَتْ خَطِيئَةُ آدَمَ فِي مَعْصِيَةٍ، وَخَطِيئَةُ إِبْلِيسَ فِي كِبْرٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قُبَيْلٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالسُّجُودِ، وَكَانَ عَلَى خِزَانَةِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ‏:‏ وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ‏:‏ جُنَّ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ‏:‏ أَلْجَأَهُ اللَّهُ إِلَى نَسَبِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِيقَوْلِهِ ‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ مِنْ قَبِيلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ‏:‏ مَا كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَطُّ، وَإِنَّهُ لَأَصْلُ الْجِنِّ، كَمَا أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلُ الْإِنْسِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَعَلَى الْأَرْضِ وَخَازِنَ الْجِنَانِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏‏:‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ وَأَكْرَمَهُمْ قَبِيلَةً، وَكَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، وَكَانَ لَهُ سُلْطَانُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَسُلْطَانُ الْأَرْضِ، وَكَانَ مِمَّا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ أَنَّهُ رَأَى أَنَّ لَهُ بِذَلِكَ شَرَفًا عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ، فَوَقَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ كِبْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، فَاسْتَخْرَجَ اللَّهُ ذَلِكَ الْكِبْرَ مِنْهُ حِينَ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، فَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ لِلْمَلَائِكَةِ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مَا أَسَرَ إِبْلِيسُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْكِبْرِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ لِأَنَّهُ كَانَ خَازِنًا عَلَى الْجِنَانِ، كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ‏:‏ مَكِّيٌّ، وَمَدَنِيٌّ، وَبَصَرِيٌّ، وَكُوفِيٌّ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَ اسْمُ قَبِيلَةِ إِبْلِيسَ الْجِنَّ، وَهُمْ سِبْطٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ فَنَسَبَهُ إِلَى قَبِيلَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏كَانَ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ مِنَ الْجَنَّانِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْجِنَانِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْيَحْمِدِيُّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ‏:‏ ثَنِي سَوَارُ بْنُ الْجَعْدِ الْيَحْمِدِيُّ، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْجِنِّ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ طَرَدَتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَأَسَرَّهُ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، قَالَ‏:‏ ثَنِي عَمِّي، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ ‏{‏إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ كَانَ خَازِنَ الْجِنَانِ فَسُمِّيَ بِالْجِنَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدَى، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ‏:‏ كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَذَكَرَنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَخَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وَعَدَلَ عَنْهُ وَمَالَ، كَمَا قَالَ رُؤْبَةُ‏:‏

يَهْـوِينَ فِـي نَجْـدٍ وغَـوْرًا غَـائِرًا *** فَوَاسِـقًا عَـنْ قَصْدِهـا جَـوَائرًا

يَعْنِي بِالْفَوَاسِقِ‏:‏ الْإِبِلُ الْمُنْعَدِلَةُ عَنْ قَصْدِ نَجْدٍ، وَكَذَلِكَ الْفِسْقُ فِي الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ الِانْعِدَالُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْمَيْلُ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ، وَيُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا‏:‏ فَسَقَتِ الرَّطْبَةُ مِنْ قِشْرِهَا‏:‏ إِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ، وَفَسَقَتِ الْفَأْرَةُ‏:‏ إِذَا خَرَجَتْ مِنْ جُحْرِهَا، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ لِأَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ‏:‏ فَفَسَقَ عَنْ رَدِّهِ أَمْرَ اللَّهِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ‏:‏ اتَّخَمْتُ عَنِ الطَّعَامِ، بِمَعْنَى‏:‏ اتَّخَمْتُ لَمَّا أَكَلْتُهُ‏.‏ وَقَدْ بَيَّنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ‏:‏ عَدَلَ وَجَارَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَخَرَجَ عَنْهُ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ‏:‏ مَعْنَى الْفِسْقِ‏:‏ الِاتِّسَاعُ‏.‏ وَزَعَمَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ فَسَقَ فِي النَّفَقَةِ‏:‏ بِمَعْنَى اتَّسَعَ فِيهَا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَإِنَّمَا سُمِّي الْفَاسِقُ فَاسِقًا، لِاتِّسَاعِهِ فِي مَحَارِمِ اللَّهِ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ‏}‏ قَالَ‏:‏ عَصَى فِي السُّجُودِ لِآدَمَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَفَتُوَالَوْنَ يَا بَنِي آدَمَ مَنِ اسْتَكْبَرَ عَلَى أَبِيكُمْ وَحَسَدَهُ، وَكَفَرَ نِعْمَتِي عَلَيْهِ، وَغَرَّهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِ عَيْشِهِ فِيهَا إِلَى الْأَرْضِ وَضِيقِ الْعَيْشِ فِيهَا، وَتُطِيعُونَهُ وَذَرِّيَّتَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَعَ عُدَوَاتِهِ لَكُمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَتَتْرُكُونَ طَاعَةَ رَبِّكُمُ الَّذِي أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ وَأَكْرَمَكُمْ، بِأَنْ أَسْجَدَ لِوَالِدِكُمْ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّاتِهِ، وَآتَاكُمْ مِنْ فَوَاضِلِ نِعَمِهِ مَا لَا يُحْصَى عَدَدُهُ، وَذُرِّيَّةُ إِبْلِيسَ‏:‏ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ يَغُرُّونَ بَنِي آدَمَ‏.‏ كَمَا حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي‏}‏ قَالَ‏:‏ ذَرِّيَّتُهُ‏:‏ هُمُ الشَّيَاطِينُ، وَكَانَ يَعُدُّهُمْ ‏"‏زَلَنْبُورُ ‏"‏ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ وَيَضَعُ رَايَتَهُ فِي كُلِّ سُوقٍ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَ‏"‏ثَبْرٌ‏"‏ صَاحِبُ الْمَصَائِبِ، وَ ‏"‏الأَعْوَرُ‏"‏ صَاحِبُ الزِّنَا و‏"‏مُسَوَّطٌ‏"‏ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ، يَأْتِي بِهَا فَيُلْقِيهَا فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَلَا يَجِدُونَ لَهَا أَصْلًا و‏"‏دَاسِمٌ‏"‏ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهِ بَصَرَهُ مِنَ الْمَتَاعِ مَا لَمْ يَرْفَعْ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ أَكَلَ مَعَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الْأَعْمَشَ يَقُولُ‏:‏ إِذَا دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَلَمْ أُسَلِّمْ، رَأَيْتُ مِطْهَرَةً، فَقُلْتُ‏:‏ ارْفَعُوا ارْفَعُوا، وَخَاصَمْتُهُمْ، ثُمَّ أَذْكُرُ فَأَقُولُ‏:‏ دَاسِمٌ دَاسِمٌ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ‏:‏ هُمْ أَرْبَعَةٌ ثَبْرٌ، وَدَاسِمٌ، وَزَلَنْبُورُ، وَالْأَعْوَرُ، وَمُسَوَّطٌ أَحُدُّهَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ، وَهُمْ يَتَوَالَدُونَ كَمَا تَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا آدَمُ أَبُو الْإِنْسِ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ‏:‏ إِنِّي لَا أَذْرَأُ لِآدَمَ ذُرِّيَّةً إِلَّا ذَرَأْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ شَيْطَانٌ قَدْ قُرِنَ بِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ بِئْسَ الْبَدَلُ لِلْكَافِرِينَ بِاللَّهِ اتِّخَاذُ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ أَوْلِيَاءَ مَنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ مِنْ تَرْكِهِمُ اتِّخَاذَ اللَّهِ وَلِيًّا بِاتِّبَاعِهِمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَبِيهِمْ آدَمَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَوَاضِلِ مَا لَا يُحْصَى بَدَلًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا‏}‏ بِئْسَمَا اسْتَبْدَلُوا بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ إِذْ أَطَاعُوا إِبْلِيسَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ مَا أَشْهَدْتُ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ ‏{‏خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مَا أَحْضَرْتُهُمْ ذَلِكَ فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا ‏{‏وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَلَا أَشْهَدْتُ بَعْضَهُمْ أَيْضًا خَلْقَ بَعْضٍ مِنْهُمْ، فَأَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى خَلْقِهِ، بَلْ تَفَرَّدْتُ بِخَلْقِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِغَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ، يَقُولُ‏:‏ فَكَيْفَ اتَّخَذُوا عَدُوَّهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ خَلْقٌ مَنْ خَلْقٍ أَمْثَالِهِمْ، وَتَرَكُوا عِبَادَتِي وَأَنَا الْمُنْعِمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَسْلَافِهِمْ، وَخَالِقُهُمْ وَخَالِقُ مَنْ يُوَالُونَهُ مِنْ دُونِي مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مُعِينٍ وَلَا ظَهِيرٍ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ مَنْ لَا يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ يَضِلُّ، فَمَنْ تَبِعَهُ يَجُورُ بِهِ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ أَعْوَانًا وَأَنْصَارًا، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ فُلَانٌ يُعَضِّدُ فُلَانًا إِذَا كَانَ يُقَوِّيهِ وَيُعِينُهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا‏}‏‏:‏ أَيْ أَعْوَانًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ يَضِلُّونَ بَنِي آدَمَ عَنِ الْحَقِّ، وَلَا يَهْدُونَهُمْ لِلرُّشْدِ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِالْمُضِلِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَتْبَاعٌ عَلَى الضَّلَالَةِ، وَأَصْحَابٌ عَلَى غَيْرِ هُدًى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ، ‏{‏وَيَوْمَ يَقُولُ‏}‏ اللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ ‏{‏نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ‏}‏ يَقُولُ لَهُمْ‏:‏ ادْعُوا الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ شُرَكَائِي فِي الْعِبَادَةِ لِيَنْصُرُوكُمْ وَيَمْنَعُوكُمْ مِنِّي ‏{‏فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ فَلَمْ يُغِيثُوهُمْ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏‏.‏

فَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي الدُّنْيَا يَوْمئِذٍ عَدَاوَةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِيقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ جَعَلَ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَدَاوَةً‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ وَجَعَلْنَا فِعْلَهُمْ ذَلِكَ لَهُمْ مَهْلِكًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَهْلِكًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مَوْبِقًا‏)‏ قَالَ‏:‏ هَلَاكًا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْمَوْبِقُ‏:‏ الْمَهْلِكُ، الَّذِي أَهْلَكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيهِ، أَوَبْقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَرَأَ ‏{‏وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا‏}‏‏.‏‏

حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ‏(‏مَوْبِقًا‏)‏ قَالَ‏:‏ هَلَاكًا‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حَمِيدٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ عَرْفَجَةَ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ مَهْلِكًا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ هُوَ اسْمُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَادٍ عَمِيقٌ فُصِلَ بِهِ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَهْلِ الْهُدَى، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ الْبِكَالِيَّ حَدَّثَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ هُوَ وَادٍ عَمِيقٌ فُرِّقَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ مُجَاهِدٌ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَادِيًا فِي النَّارِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ دِرْهَمٍ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا‏}‏ قَالَ‏:‏ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ‏.‏

وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي تَأْوِيلِ الْمَوْبِقِ‏:‏ أَنَّهُ الْمَهْلِكُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي كَلَامِهَا‏:‏ قَدْ أَوْبَقْتُ فُلَانًا‏:‏ إِذَا أَهْلَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ يُهْلِكُهُنَّ‏.‏ وَيُقَالُ لِلْمَهْلِكِ نَفْسِهِ‏:‏ قَدْ وَبَقَ فُلَانٌ فَهُوَ يَوْبَقُ وَبَقًا‏.‏ وَلُغَةُ بَنِي عَامِرٍ‏:‏ يَابَقُ بِغَيْرِ هَمْزٍ‏.‏ وَحُكِيَ عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهَا تَقُولُ‏:‏ يَيْبَقُ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ وَبَقَ يَبِقُ وَبُوقًا، حَكَاهَا الْكِسَائِيُّ‏.‏ وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ‏:‏ الْمَوْبِقُ‏:‏ الْوَعْدُ، وَيَسْتَشْهِدُ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ‏:‏

وَحَـادَ شَـرَوْرَى فالسَّـتَارَ فَلَـمْ يَدَعْ *** تِعـارًا لَـهُ والْـوَاديَيْنِ بِمَـوْبِقِ

وَيَتَأَوَّلَهُ بِمَوْعِدٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَهْلِكُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، هُوَ الْوَادِي الَّذِي ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْعَدَاوَةَ الَّتِي قَالَهَا الْحَسَنُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَعَايَنَ الْمُشْرِكُونَ النَّارَيَوْمئِذٍ ‏{‏فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ دَاخِلُوهَا‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا‏}‏ قَالَ‏:‏ عَلِمُوا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «إِنَّ الْكَافِرَ يَرَى جَهَنَّمَ فَيَظُنُّ أَنَّهَا مُوَاقَعَتُهُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَة»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏

وَلَمْ يَجِدُوا عَنِ النَّارِ الَّتِي رَأَوْا مَعْدِلًا يَعْدِلُونَ عَنْهَا إِلَيْهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ لَمْ يَجِدُوا مِنْ مُوَاقَعَتِهَا بُدًّا، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَتَمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَمِنَ الْمَصْرِفِ بِمَعْنَى الْمَعْدِلِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ‏:‏

أَزُهَـيْرُ هَـلْ عَـنْ شَيْبَةَ مِنْ مَصْرِفِ *** أَمْ لَا خُـلُودَ لِبَـاذِلٍ مُتَكَـلِّفِ

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْمَثَّلْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، وَوَعَظْنَاهُمْ فِيهِ مَنْ كُلِّ عِظَةٍ، وَاحْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ بِكُلِّ حُجَّةٍ لِيَتَذَكَّرُوا فَيُنِيبُوا، وَيَعْتَبِرُوا فَيَتَّعِظُوا، وَيَنْـزَجِرُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ مِرَاءً وَخُصُومَةً، لَا يُنِيبُ لِحَقٍّ، وَلَا يَنْـزَجِرُ لِمَوْعِظَةٍ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ الْجَدَلُ‏:‏ الْخُصُومَةُ، خُصُومَةُ الْقَوْمِ لِأَنْبِيَائِهِمْ، وَرَدُّهُمْ عَلَيْهِمْ مَا جَاءُوا بِهِ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ‏}‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ‏}‏‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏حَتَّى تُوَفَّى‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏الْآيَةَ‏.‏ وَقَرَأَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ هُمْ لَيْسَ أَنْتَ ‏{‏لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا مَنَعَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىبَيَانُ اللَّهِ‏:‏ وَعَلِمُوا صِحَّةَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَحَقِيقَتَهُ، وَالِاسْتِغْفَارَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ شِرْكِهِمْ، إِلَّا مَجِيئُهُمْ سُنَّتُنَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا قَبِلَهُمْ، أَوْ إِتْيَانُهُمُ الْعَذَابَ قُبَلًا‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَوْ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَجْأَةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا‏}‏ قَالَ فَجْأَةً‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَوْ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ عَيَانًا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ قُبُلًا مُعَايَنَةَ ذَلِكَ الْقُبُلِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ جَمَاعَةٌ ذَاتُ عَدَدٍ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا‏}‏ بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَلْوَانٌ وَضُرُوبٌ، وَوَجَّهُوا الْقُبُلَ إِلَى جَمْعِ قَبِيْلٍ، كَمَا يُجْمَعُ الْقَتِيلُ الْقُتُلُ، وَالْجَدِيدُ الْجُدُدُ، وَقَرَأَ جَمَاعَةٌ أُخْرَى‏:‏ ‏"‏أَوْ يَأتِيَهُمُ الْعَذَابُ قِبَلًا‏"‏ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ،‏.‏ بِمَعْنَى أَوْ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ عَيَانًا مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ كَلَّمْتُهُ قِبَلًا‏.‏ وَقَدْ بَيَّنْتُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا نُرْسِلُ رُسُلَنَا إِلَّا لِيُبَشِّرُوا أَهْلَ الْإِيمَانِوَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ بِجَزِيلِ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَلِيُنْذِرُوا أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ وَالتَّكْذِيبِ، عَظِيمَ عِقَابِهِ، وَأَلِيمَ عَذَابِهِ، فَيَنْتَهُوا عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، وَيَنْـزَجِرُوا عَنِ الْكُفْرِ بِهِ وَمَعَاصِيهِ ‏{‏وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَيُخَاصِمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْبَاطِلِ، ذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَخْبَرْنَا عَنْ حَدِيثِ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي أَوَّلِ الدَّهْرِ لَمْ يُدْرَ مَا شَأْنُهُمْ، وَعَنِ الرَّجُلِ الَّذِي بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَعَنِ الرُّوحِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا كَانُوا يُخَاصِمُونَهُ بِهِ، يَبْتَغُونَ إِسْقَاطَهُ، تَعْنِيتًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ إِنَّا لَسْنَا نَبْعَثُ إِلَيْكُمْ رُسُلَنَا لِلْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ، وَإِنَّمَا نَبْعَثُهُمْ مُبَشِّرِينَ أَهْلَ الْإِيمَانِ بِالْجَنَّةِ، وَمُنْذِرِينَ أَهْلَ الْكُفْرِ بِالنَّارِ، وَأَنْتُمْ تُجَادِلُونَهُمْ بِالْبَاطِلِ طَلَبًا مِنْكُمْ بِذَلِكَ أَنْ تُبْطِلُوا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولِي، وَعَنَى بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ‏}‏ لِيُبْطِلُوا بِهِ الْحَقَّ وَيُزِيلُوهُ وَيَذْهَبُوا بِهِ‏.‏ يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ دَحَضَ الشَّيْءَ‏:‏ إِذَا زَالَ وَذَهَبَ، وَيُقَالُ‏:‏ هَذَا مَكَانٌ دَحْضٌ‏:‏ أَيْ مُزِلٌ مُزْلِقٌ لَا يَثْبُتُ فِيهِ خُفٌّ وَلَا حَافِرٌ وَلَا قَدَمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

رَدِيـتُ وَنَجَّـى الْيَشْـكُرِيَّ حِـذَارُهُ *** وَحَـادَ كَمَـا حَـادَ الْبَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ

وَيُرْوَى‏:‏ وَنَحَّى، وَأَدْحَضْتُهُ أَنَا‏:‏ إِذَا أَذْهَبْتُهُ وَأَبْطَلْتُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَاتَّخَذُوا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ حُجَجَهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ، وَكُتَّابَهُ الَّذِي أَنَـزَلَهُ إِلَيْهِمْ، وَالنُّذُرُ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا سُخْرِيًّا يَسْخَرُونَ بِهَا، يَقُولُونَ‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ‏:‏ وَأَيُّ النَّاسِ أَوْضَعُ لِلْإِعْرَاضِ وَالصَّدِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمَامِمَّنْ ذَكَّرَهُ بِآيَاتِهِ وَحُجَجِهِ، فَدَلَّهُ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ، وَهُدَاهُ بِهَا إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، فَأُعْرِضُ عَنْ آيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِالَّتِي فِي اسْتِدْلَالِهِ بِهَا الْوُصُولُ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ الْهَلَاكِ ‏{‏وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ وَنَسِيَ مَا أَسْلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُهْلِكَةِ فَلَمْ يَتُبْ، وَلَمْ يَنُبْ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ‏}‏‏:‏ أَيْ نَسِيَ مَا سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ إِنَّاجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا أَغْطِيَةًلِئَلَّا يَفْقَهُوهُ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَفْقَهُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فِي آذَانِهِمْ ثِقَلًا لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ ‏{‏وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى‏}‏ يَقُولُ عَزَّ ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَإِنْ تَدْعُ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ عِنْدَ التَّذْكِيرِ بِهَا إِلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَحَجَّةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ ‏{‏فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ فَلَنْ يَسْتَقِيمُوا إِذَا أَبَدًا عَلَى الْحَقِّ، وَلَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَسَمْعَهُمْ وَأَبْصَارِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ وَرَبُّكَ السَّاتِرُ يَا مُحَمَّدُ عَلَى ذُنُوبِ عِبَادِهِ بِعَفْوِهِ عَنْهُمْإِذَا تَابُوا مِنْهَا ‏{‏ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا‏}‏ هَؤُلَاءِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ آيَاتِهِ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا بِمَا كَسَبُوا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْآثَامِ، ‏{‏لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ‏}‏ وَلَكِنَّهُ لِرَحْمَتِهِ بِخَلْقِهِ غَيْرُ فَاعِلٍ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَى مِيقَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ، ‏{‏بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَكِنْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، وَذَلِكَ مِيقَاتُ مَحَلِّ عَذَابِهِمْ، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ ‏{‏لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَنْ يَجِدَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنْ لَمْ يُعَجَّلْ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ الْمَوْعِدِ الَّذِي جَعَلْتُهُ مِيقَاتًا لِعَذَابِهِمْ، مَلْجَأً يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْجًى يَنْجُونَ مَعَهُ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مَعْقِلًا يُعْتَقَلُونَ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ وَأُلْتُ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، أَئِلُ وُءُولًا مَثَّلَ وُعُولَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

لَا وَاءَلَـتْ نَفْسُـكَ خَلَّيْتَهَـا *** لِلْعَـامِرِيِّينَ وَلَـمْ تُكْـلَمِ

يَقُولُ‏:‏ لَا نَجَتْ، وَقَوْلُ الْأَعْشَى‏:‏

وَقَـدْ أُخَـالِسُ رَبَّ الْبَيْـتِ غَفْلَتَـهُ *** وقَـدْ يُحَـاذِرُ مِنِّـي ثَـمَّ مـا يَئِـلُ

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏مَوْئِلًا‏)‏ قَالَ‏:‏ مَحْرِزًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي عَلَيٌّ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ‏:‏ ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏‏:‏ يَقُولُ‏:‏ مَلْجَأً‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ‏:‏ ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ ‏{‏لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏‏:‏ أَيُ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا مَلْجَأً‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا‏}‏ قَالَ‏:‏ لَيْسَ مِنْ دُونِهِ مَلْجَأً يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا‏}‏‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَتِلْكَ الْقُرَى مِنْ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ أَهْلَكْنَا أَهْلَهَا لَمَّا ظَلَمُوا، فَكَفَرُوا بِاللَّهِ وَآيَاتِهِ، ‏{‏وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا‏}‏ يَعْنِي مِيقَاتًا وَأَجَلًا حِينَ بَلَغُوهُ جَاءَهُمْ عَذَابٌ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِهِ، يَقُولُ‏:‏ فَكَذَلِكَ جَعَلَنَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِكَ أَبَدًا مَوْعِدًا، إِذَا جَاءَهُمْ ذَلِكَ الْمَوْعِدُ أَهْلَكْنَاهُمْ سُنَّتُنَا فِي الَّذِينَ خَلَوْا مَنْ قَبْلِهُمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمُ‏.‏

كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ‏:‏ ثَنَا عِيسَى ‏"‏ح‏"‏، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ‏:‏ ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا‏}‏ قَالَ‏:‏ أَجَلًا‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي الْحُسَيْنُ، قَالَ‏:‏ ثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ‏.‏

وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ ‏(‏لِمَهْلِكِهِمْ‏)‏ فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏"‏لِمُهْلَكِهِمْ‏"‏ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ عَلَى تَوْجِيهِ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَنْ أُهْلِكُوا إِهْلَاكًا، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ‏:‏ ‏"‏لِمَهْلَكِهِمْ‏"‏ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ عَلَى تَوْجِيهِهِ إِلَى الْمَصْدَرِ مَنْ هَلَكُوا هَلَاكًا وَمَهْلِكًا‏.‏

وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ‏:‏ ‏"‏لِمُهْلَكِهِمْ‏"‏ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ، وَاسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏ فَأَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ مَنْ أَهْلَكْنَا، إِذْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَهُ أُولَى‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَقَدْ قَالَ قَبْلُ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى‏}‏، لِأَنَّ الْهَلَاكَ إِنَّمَا حَلَّ بِأَهْلِ الْقُرَى، فَعَادَ إِلَى الْمَعْنَى، وَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَيْهِ دُونَ اللَّفْظِ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ‏:‏ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا‏}‏ يَعْنِي أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ‏}‏ وَلَمْ يَجِئْ بِلَفْظِ الْقُرَى، وَلَكِنْ أَجْرَى اللَّفْظَ عَلَى الْقَوْمِ، وَأَجْرَى اللَّفْظَ فِي الْقَرْيَةِ عَلَيْهَا إِلَى قَوْلِهِ ‏{‏الَّتِي كُنَّا فِيهَا‏}‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏ وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ أَهْلَكْنَاهَا حَمَلَهُ عَلَى الْقَوْمِ، كَمَا قَالَ‏:‏ جَاءَتْ تَمِيمٌ، وَجَعَلَ الْفِعْلَ لِبَنِي تَمِيمٍ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ لِتَمِيمٍ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَقَالَ‏:‏ جَاءَ تَمِيمٌ، وَهَذَا لَا يَحْسُنُ فِي نَحْوِ هَذَا، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَ غَيْرَ تَمِيمٍ فِي نَحْوِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَجَعَلَهُ اسْمًا، وَلَمْ يَحْتَمِلْ إِذَا اعْتَلَّ أَنْ يُحْذَفَ مَا قَبْلَهُ كُلُّهُ مَعْنَى التَّاءِ مَنْ جَاءَتْ مَعَ بَنِي تَمِيمٍ، وَتَرَكَ الْفِعْلَ عَلَى مَا كَانَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ حَذَفَ شَيْئًا قَبْلَ تَمِيمٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ تِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ، لِأَنَّ الْقَرْيَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْأَهْلِ، فَجَازَ أَنْ تَرِدَ عَلَى الْأَهْلِ مَرَّةً وَعَلَيْهَا مَرَّةً، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي تَمِيمٍ، لِأَنَّ الْقَبِيلَةَ تُعْرَفُ بِهِ وَلَيْسَ تَمِيمٌ هُوَ الْقَبِيلَةُ، وَإِنَّمَا عُرِفَتِ الْقَبِيلَةُ بِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْقَبِيلَةُ قَدْ سُمِّيَتْ بِالرَّجُلِ لَجَرَتْ عَلَيْهِ، كَمَا تَقُولُ‏:‏ وَقَعْتُ فِي هُودٍ، تُرِيدُ فِي سُورَةِ هُودٍ، وَلَيْسَ هُودٌ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وَإِنَّمَا عُرِفَتِ السُّورَةُ بِهِ، فَلَوْ سَمَّيْتَ السُّورَةَ بِهُودٍ لَمْ يَجُزْ، فَقُلْتَ‏:‏ وَقَعْتُ فِي هُودٍ يَا هَذَا، فَلَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى بَنِي تَمِيمٍ تَمِيمًا لَقِيلَ‏:‏ هَذِهِ تَمِيمٌ قَدْ أَقْبَلَتْ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا، وَجَعْلنَا لِإِهْلَاكِهِمْ مَوْعِدًا‏.‏